موقع صيدا البحرية
د.فادي شامية
في اليوم التالي لـ "طوفان الأقصى" حرّك "حزب الله" جبهة لبنان إسناداً لغزة. لم تتحرك أية جبهة أخرى؛ لا الجبهة "الممانعة" ولا الجبهات المطبّعة. التبرير أخلاقي ولا تغيب عنه حسابات "المحور" الذي كان السيد حسن نصر الله عرّابه وسيده.
الأهداف
على ما يقارب سنة؛ أصر "حزب الله" أن "جبهة لبنان لن تتوقف حتى يتوقف العدوان على غزة أيّاً تكن التضحيات والعواقب والاحتمالات والأفق الذي تذهب إليه المنطقة.. وإلا سيكون كل ما قدّمناه من تضحيات وشهداء خلال عام قد ذهب سدى.. أقول للعدو لن تستطيعوا أن تعيدوا سكان الشمال وافعلوا ما شئتم هذا هو التحدي الكبير بيننا وبينكم". (السيد حسن نصر الله 19/9/2024).
رفض الحزب رسائل الوسطاء؛ اعتبرها تهويلا؛ قال إن "إسرائيل عاجزة" و"جيشها مهزوم ومنهار" (نصر الله 19/1/2024) والكيان يعيش أسوأ أيامه.. وإذا ما قرر الدخول إلى الجنوب "فلن تبقى له دبابات" (نصر الله 17/7/2024).
وعليه؛ فقد حدد الحزب أهداف الحرب؛ "هذه معركة من أجل غزة. وضعنا لها هدفًا ثانيا، وليس هدفًا أولًا: منع أي عملية استباقية للعدو باتجاه لبنان. وثالثا.. استعادة الأرض المحتلة" (نصر الله 24/5/2024.
في 16/9/2024 اجتمع وزير الدفاع الإسرائيلي مع المبعوث الأميركي آموس هوكشتاين للاستماع إلى رد "حزب الله" الذي بقي على حاله. كانت تلك هي المحاولة الأخيرة قبل أن تعلن الحكومة الإسرائيلية توسيع أهداف الحرب في غزة لتشمل: "تمكين سكان الشمال من العودة إلى ديارهم" (عددهم نحو ستين ألفا يقيمون بفنادق ووحدات سكنية تمولها الدولة).
في 3/10/2024 فصّل نتنياهو الأهداف من على الحدود اللبنانية مع فلسطين المحتلة؛ "مع أو من دون اتفاق، مفتاح إعادة سكاننا في الشمال بأمان إلى منازلهم هو إبعاد حزب الله إلى ما وراء الليطاني، وضرب أي محاولة من قبله لإعادة التسلح، والرد بحزم ضد أي إجراء ضدنا".
وقائع الحرب
خلال الحرب وقعت أحداث فارقة؛ تفجير البايجر الذي بدا كفيلم هوليودي (تفجير نحو 4000 جهاز أدت إلى إصابة نحو 2500 عنصر أو مناصر للحزب في لحظة واحدة)، تلاه تفجير أجهزة اللاسلكي (17 و18/9/2024)، ثم انفجار المواجهات اعتبارا من 23/9، وتاليا قتل أعضاء المجلس الجهادي للحزب جميعا، وقادة الصف الأول والثاني، بما في ذلك أمين عام الحزب وقائده التاريخي حسن نصر الله (27/9)، ولاحقا اغتيال السيد هاشم صفي الدين خليفته المحتمل، والشيخ نبيل قاووق، وعدد كبير جداً من القادة، فضلا عن أكثر من 500 من العناصر والقادة الذين نعاهم الحزب رسميا قبل أن يتوقف عن ذلك بعد 25/9، ما يجعل أعداد شهداء الحزب غير محدد (تشير تقارير إلى أنهم عشرة أضعاف حرب تموز 2006)، إضافة إلى عدد غير محدد من الأسرى (لم يقر الحزب رسميا بوجود أسرى، وتاليا لم يشملهم اتفاق وقف النار رغم ظهور بعضهم تلفزيونيا).
لم يتوقع كثيرون حجم الاختراق الأمني، ولا حجم التوغل البري (في البداية كان الحزب ينفي الدخول إلى أية قرية)، ولا عدد الأنفاق والمخازن التي تم تدميرها (قال الحزب بداية أن صور الأنفاق قديمة..)، ولم يتخيل أحد مسلسل تفجير القرى، ولا التهجير الذي لم يشهد له لبنان مثيلا.. ولا أن يتحول الناطق باسم الجيش الإسرائيلي حاكما عسكريا للبنان؛ يصدر أوامر الإخلاء وإنذارات إعدام دور الناس وأرزاقها.
حاول الحزب إحياء معادلات الردع التي وعد بها الناس؛ فقصف حيفا وعكا وتل أبيب ودمر كليا أو جزئيا مئات الوحدات السكنية في مستوطنات الشمال، لكن موازين القوى لم تسعفه؛ فهُدمت أجزاء واسعة من الضاحية وضُرب قلب العاصمة مرات عدة، فضلا عن مناطق لبنانية عديدة.
بعد أن تحوّل وقف إطلاق النار مطلب الحكومة الأول، ومن خلفها الناس، وافق أمين عام الحزب الجديد الشيخ نعيم قاسم على "التفاوض على أساس وقف النار وحفظ سيادة لبنان" معتبراً أن "المقاومة تقاتل الجيش –الإسرائيلي- حيث يتقدم وليس مهماً أن يقال إن الجيش الإسرائيلي دخل قرية أو خرج منها". (20/10)
أصبح الرئيس نبيه بري مفاوضا رسميا، بموافقة الحزب، فأعلن الموافقة على "تنفيذ القرار 1701 بلا زيادة أو نقصان". جال الوسيط الأميركي هوكشتين بين لبنان و"إسرائيل"، وأُعلن وقف النار صبيحة 27/11/2024، استنادا إلى إقرار 1701 بعد إضافة بنود، ومقدمة، وضمانات، وملحقا.
وفق الأرقام الرسمية اللبنانية فقد بلغ عدد القتلى نحو 4000 (الأعداد في ازدياد نظرا لانتشال المزيد من الجثث) والجرحى 15859 مواطنا (بتاريخ 28/11). فيما أعلن الجانب الإسرائيلي عن مقتل 124 بينهم 79 جنديا.
الاتفاق
في واقع الحال؛ فإن قبول "حزب الله" وقف إطلاق النار يعني أنه قد تحوّل من حرب الإسناد إلى اتفاق الضرورة. لم يكن باستطاعته الرفض. بُنيته لم تعد تحتمل، ولا جمهوره، ولا حليفه الرئيس بري، ولا بقية اللبنانيين. بقبوله الاتفاق فصل فعليا جبهة لبنان عن غزة. وقَبل بما لم يقبل به عمليا طيلة 18 سنة خلت. وأقر بالوقائع المستجدة؛ احتلال الشريط الحدودي لمدة ستين يوما؛ هي فترة انتشار الجيش اللبناني واختبار تنفيذ الاتفاق.
عودة سكان شمال فلسطين باتت ممكنة -ولو أنهم يريدون مزيداً من الضمانات-، فيما عودة أبناء قرى الحافة الحدودية حتى عمق خمسة كيلومترات غير ممكنة، وفقا لتحذيرات الجيش الإسرائيلي. الأهم أن نظريات "توازن الردع"، و"السلاح الحامي"، و"العبور نحو فلسطين" لم يثبتها الميدان. لا يقلل ذلك من بسالة الذين دافعوا عن بلداتهم حتى الشهادة أو الذين ثبتوا حتى النهاية، ولكن موازين القوى عبّرت عن نفسها في "إعلان اتفاق وقف الأعمال العدائية والالتزامات ذات الصلة في شأن تعزيز الترتيبات الأمنية وتنفيذ قرار مجلس الأمن الدولي رقم 1701"، الذي تنص مقدمته على "التنفيذ الكامل لقرارات مجلس الأمن السابقة، بما في ذلك نزع سلاح جميع الجماعات المسلحة في لبنان".
كما تنص بنوده الـ 13 على أن تكون "قوات الأمن والجيش الرسمية في لبنان هي الجهات المسلحة الوحيدة المسموح لها حمل السلاح جنوب لبنان" (م 5) و"حصر توريد أو إنتاج الأسلحة أو المواد المرتبطة بالأسلحة في لبنان تحت إشراف وسيطرة الحكومة اللبنانية"، (م6) و"تفكيك جميع المنشآت غير المرخصة المختصة بإنتاج الأسلحة أو المواد المرتبطة بالأسلحة" (م7) و"تفكيك جميع البنى التحتية والمواقع العسكرية، ومصادرة أي أسلحة غير مرخصة تتعارض مع هذه الالتزامات"(م8). ويفترض أن يتولى الجيش اللبناني تنفيذ هذا الاتفاق (زيد عديده بالتطويع لهذه الغاية)، كما أعلن وزير الدفاع اللبناني.
أما البند الذي أثار خلافا وأخّر الاتفاق أياما؛ فهو الرابع الذي يتحدث عن حق "الدفاع عن النفس" – من الجانبين- والمقصود فيه من الطرف الإسرائيلي؛ حرية الحركة العسكرية لضرب ما تعتبره "إسرائيل" خرقا للالتزامات. حصل ذلك فعليا في اليوم الثاني لوقف النار حيث شنت الطائرات الحربية غارات على ما اعتبرته تهديدا، فضلا عن قتل الجيش الإسرائيلي واعتقاله مسلحين من "حزب الله" اقتربوا من قواته التي تحتل قرى في الجنوب.
ولأجل التطبيق "الحازم"؛ أنشأ الاتفاق لجنة برئاسة ضابط أميركي وبمشاركة آخر فرنسي، لتتولى البحث في شكاوى الخرق من الجانبين.
الأخطر؛ ورقة الضمانات التي قدّمها الجانب الأميركي لـ "إسرائيل" وفيها "إعلان عزم إسرائيل والولايات المتحدة على تبادل معلومات استخباراتية حساسة تتعلق بانتهاكات، بما في ذلك أي اختراق من حزب الله داخل الجيش اللبناني".. و"الاعتراف بحق إسرائيل في الرد على التهديدات التي مصدرها الأراضي اللبنانية، وفقاً للقانون الدولي".
وقد أُرفق الاتفاق بملحق هو عبارة عن خريطة تظهر الجنوب اللبناني وفيه الحدود الدولية، الخط الأزرق، وخط حديث يحمل تسمية "الخط الجديد 2024"، ويشمل منطقة أوسع من جنوب الليطاني.
مصير الاتفاق
في الواقع؛ سبق أن وافق الحزب في العام 2006 على نص القرار 1701، وقد كان القرار يتحدث أيضا عن القرارات الدولية السابقة، وعن نزع سلاحه جنوب الليطاني، وقد أظهرت وقائع الحرب أنه أقام بنية عسكرية هائلة منذ ذلك الحين، لكن النسخة المحدثة وضعت التزامات على الدولة اللبنانية، وآليات عمل تمنع الحزب –نظريا- من تكرار من ذلك، وعمليا يحرص الجيش الإسرائيلي على ما يسميه "التنفيذ الصارم" للاتفاق، الأمر الذي يجعل هدنة الستين يوما فترة اختبار صعبة؛ إما يسقط الاتفاق ونعود للحرب، أو يُنزع ما تبقى من سلاح الحزب جنوب الليطاني، وتقفَل جبهة لبنان إلى أمد غير محدد، وبين هذا وذاك احتمالات تتعلق بالداخل اللبناني، وتركيبة الحزب نفسه.
منذ توقيعه؛ يتعرض الاتفاق للاهتزاز، فالجيش الإسرائيلي في الجنوب مستمر بفعالياته العسكرية؛ قصفا، وغارات، واعتقالا لكل من يقترب منه، وإطلاقا للنار منعا للعودة، وتقييدا لحركة تنقل الناس، وتجريفا للأراضي، وتخريباً للممتلكات. بالمقابل يحاول الحزب إعادة التموضع، والتوازن، والتحرك بالتوازي مع حركة العائدين. ولدى عدد من القيادات الميدانية انزعاج من الوضع الراهن، ولا إقرار فعلياً بعد بالانسحاب من الليطاني، الذي اعتبر أمين عام الحزب السابق؛ "نقله أسهل من نقل الحزب إلى خارجه" (13/2/2024).
ومع ذلك؛ فإن احتمالات صمود الاتفاق أعلى من انهياره؛ للأسباب نفسها التي فرضت توقيعه، ولأن الدولة اللبنانية باتت طرفا رسميا وميدانيا، من خلال الجيش اللبناني؛ الذي يتحاشى الحزب الاصطدام به، ولأن الولايات المتحدة وإيران؛ كلاهما لا يريد راهنا العودة إلى الحرب، وليس سراً أن إيران شجّعت الحزب على قبول الاتفاق، وهي متمسكة بتسويقه إنجازاً؛ يعبّر عن "عجز الكيان الصهيوني في تحقيق أهدافه"، وهي الدعاية نفسها التي يحاول الحزب بيعها لجمهوره؛ لأسباب لها علاقة ببنيته، وبتماسك جمهوره.. وبحسابات ما بعد الحرب.
يبقى أن سرعة العائدين إلى قراهم إعلان تمسك لافت بالأرض. فرحتهم المشروعة لا ينبغي أن تُحّمل مضامين أو عناوين لا تتناسب مع الواقع.
No comments:
Post a Comment